كلمة
العدد
فهد .. الملك العبقريّ والقائد الحكيم
يوم
الإثنين 26/ جمادى الثانية بالقياس إلى التقويم العربي و 25/ منه بالقياس إلى
التقويم الهندي 1426هـ الموافق 1/ أغسطس 2005م، قبيلَ صلاة العصر وبعد ما أُذِّنَ
لها، دخلتُ منزلي كالعادة ، راجعًا من إلقاء الدرس — في الحصتين اللتين أُدَرِّس
فيهما الطلابَ في مثل هذا الوقت منذ سنوات طويلة — ومُسَلِّمًا على أهلي ، فقابلني
مسرعًا و قائلاً : إثر خروجكم من البيت بعد صلاة الظهر، اتّصل بالتلفون من مدينة
الرياض أحدٌ قال : إن اسمه حفظ الرحمن القاسمي.
وكان مدفوعًا بالاستعجال والمفاجأة وطَلَبَك . فلمّا أخبرتُه بأنّه يكون
قائمًا بالتدريس في مثل هذا الوقت . قال : أَخْبِرْه أنّ خادم الحرمين الشريفين
الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – قد تُوُفِّي في نحو الساعة التاسعة من صباح
اليوم : الاثنين 26/6/1426هـ = 1/8/2005م . نزل عليّ الخبر كالصاعة كما يكون قد
نزل على كثيرين غيري لايُحْصَوْنَ ، وعُدْتُ أردّد : إنا لله وإنا إليه راجعون .
لله ما أَخَذَ وله ما أَعْطَىٰ وكلُّ شيء عنده بمقدار ، وكلُّ ما هو كائن
فَكَأَنْ قَد . وشكرتُ أخي الأستاذ حفظ الرحمن القاسمي الهندي نزيل الرياض حاليًّا
، مِنَّتَه الكبيرةَ مُتَمَثِّلَةً في نقله نعيَ وفاةِ الملك المسلم الكبير إلينا
، إثر وقوعها بوقت قليل ؛ فقد كان من شأن النعي أن يَتَأَخَّرَ وصوله إليّ للساعة
الثامنة والنصف من الليلة القادمة ، التي كان لأستمع فيها كالعادة إلى الإذاعات
المحلية والعالمية ، حتى أطّلع على هذا النبأ الحزين .
ورغم
أن الملك فهد – رحمه الله – كان قد ألمّ به المرضُ منذ أكثر من عشر سنوات حيث كان
قد أصيب بجلطة في المخّ في نوفمبر 1995م (جمادى الثانية 1416هـ) وقد ظل مستريحًا
على السرير الأبيض يتلقى العلاج في المستشفى بشكل مستمرّ منذ أكثر من شهرين ؛ فقد
أُدْخِلَه يوم الجمعة 19/ ربيع الثاني 1426هـ (بالقياس إلى التقويم العربي) و 18/
ربيع الثاني بالقياس إلى التقويم الهندي الموافق 27/ مايو 2005م ، وكان أخوه
الوفيّ وصديق حياته الصفيّ ورفيق دربه ووليّ عهده الأمين عبد الله بن عبد العزيز
هو الذي يقوم خلال هذه المدة الطويلة بمهام الملك وشؤون الحكم ؛ ولكن نفسي ونفوس
خلق لا يُحْصَون لم تَرْضَ أن تتلقى هذا النبأ: نبأ وفاته . وكما يحدث لدى وفاة كل
عظيم، حدث لدى وفاة الملك فهد أنّنا تمنّينا أن يكون النعي كاذبًا . ولكن أجل الله
إذا جاء لا يُؤَخَّر ، وكل نفس ذائقة الموت ، حتى نفوس الأنبياء الذين هم أحقُّ
خلق الله بالحياة، وأنفع البشر للبشر ، وأرحم خلق الله بهم منهم بأنفسهم .
تَوَلَّىٰ
الملك فهد – رحمه الله – زمامَ الملك يوم 21/ شعبان 1402هـ الموافق 13/ يونيو 1982م
، و وافته المنيّة يوم 26/ جمادى الثانية 1426هـ الموافق 1/8/2005م. وعلى ذلك دام
في الملك 24 عامًا ، أي 8640 يومًا على الأقلّ . وهي مدّة طويلة زمانيًّا ، لم
تُقَدَّر لغيره من إخوانه الملوك الذين حكموا المملكة السعودية قبله ؛ فالملك سعود
بن عبد العزيز – رحمه الله –حكم في الفترة ما بين 1953 – 1964م ، والملك فيصل
الشهيد – رحمه الله – حكم في الفترة ما بين 1964- 1975م ، والملك خالد – رحمه الله
– حكم في الفترة ما بين 1975 – 1982م . أما الملك فهد – رحمه الله – فقد حكم في
الفترة ما بين 1982 – 2005م.
ولكون
الفترة طويلة ، ومن أجل مشيئة الله عَزَّ وجَلَّ ، كانت ذاتَ تقلّبات خطيرة ،
وأحداث جسام غيّرت مجرى التاريخ ، وتركت الحليمَ حيرانَ ؛ ولكنّها هي التي أبرزت
حزمَ الملك فهد وتوفيقَه للتعامل معها، بحيث احتفظ بمكانته العظيمة كملك لبلاد
الحرمين الشريفين ، وصان بلادَه وشعبَه ومقدراتِه عن عبث العابثين ، وحسد الحاسدين
، وكيد الأعداء الماكرين ، وسَجَّلَ اسمه في سجلّ الخالدين ، وخدم مصالح الأمة
الإسلامية جمعاء بشكلٍ استحق به ثناءَ الخلق وجزاءَ الرب والاعترافَ بحنكته ، حتى
من قبل الأعداء ، فضلاً عن الأصدقاء .
وإذا
كان كثيرٌ من العظماء صنعهم ويصنعهم التاريخ ؛ فإن التاريخ سيدين للملك فهد ويُخَلِّد ذكراه مُتَشَرِّفًا أنه هو الذي
صنعه بكثير من مواقفه الفذّة وتحكّمه في عدد من مجرياته، بجلائل أعماله ، وعظائم
إنجازاته، حتى أصبح بحق شامًّا بين جميع الملوك والقادة المسلمين والعرب ، ليس فقط
لأنه كان مَلِكَ دولةٍ تحتضن الحرمين الشريفين ، وتتمتع لدى المسلمين في العالم
بمكانة لن تتمتع بها أيُّ دولة على وجه الأرض ؛ لكونها مهد العروبة والإسلام ،
ومهبط والوحي والقرآن، وموضع آخر اتّصال للسماء بالأرض ؛ ولكن أيضًا لأنه – رحمه
الله – تَصَدَّرَهم بقدراته القياديّة النادرة ، وصفاته الحكيمة الفذّة ، التي
تَبَلْوَرَت عبر عهده الطويل المليء بالهزّات الشديدة ، والصراعات العالمية
والإقليمية الصعبة المُعَقَّدَة ، وشهدت بحصافة رأيه ، وبعد نظره ، ورؤيته
الاستراتيجية الدقيقة ، وحنكته السياسية العجيبة ، وتمكنّه غير العادي من توظيف
الرجال المناسبين في الأمكنة المناسبة والأوقات المناسبة ، ومن الاستفادة حتى من
الأوضاع السلبية غير المواتية ، لصالح البلاد والشعب والأمة الإسلامية ، ولصالح
هذه المنطقة العربية الإسلامية الواسعة ، التي ظلّت ولاتزال محطّ مؤامرات الأعداء بشكل
أكثر، وقوة أكبر، ومكيدة أخطر؛ لكونّها معبرًا للحضارات ، وجسرًا لانتقال البضائع
العالمية ، ولكونها مولدًا للإسلا وثقافته ، وكونها اليوم مصدرًا أكبر في العالم
للذهب الأسود : البترول الذي يُسَيِّر اقتصادَ العالم بشكل رئيس .
وقد
كان حقًّا ، مَلِكاً مُلْهَمًا مُوَفَّقًا ، هداه الله الصراطَ المستقيم ،
والطريقَ القويم، وأوحي إليه في وقتِ كلِّ حاجة ألحّت على حلٍّ لائقٍ لصالح الشعب
والأمة بأسرها وصالح بلاد الحرمين: كيف يستخدم مُوَهِّلاته القيادية ، ومواهبه
السلطوية ، وقدراته العقلية والفكرية ، وصفاته الإيمانية ، صادرًا عن العدل والفضل
، والاعتدال والتوازن ، والتعقل العملي ، والحكمة والبصيرة ، بحيث ترك قدوةً
صالحةً للملك الصالح البرّ ، المتمسك بدينه وعقيدته ، وثوابت إيمانه ، ومُحْكَمَات
شرائعه ، في كل قضيّة من القضايا المحلية ، والإقليمية والدولية ، مما أكسبه تقديرًا
لدى الأقارب والأجانب ، واحترامًا لدى الأصدقاء والأعداء ، وهيبةً ووقارًا لدى
المتربصين بالإسلام والمسلمين ولاسيما بلاد الحرمين الدوائر، ورفع قدره ، وأسمى
مكانته ، في المجالس الدولية ، والمحافل الإقليمية ، والمجتمعات المحليّة .
ويصحّ
أن يقال : إن الملك فهد – رحمه الله – كان بفضل من الله وتوفيقه مؤسسَ دولة سعودية
عصرية حديثة ، كانت من قبل صحراويّة تحتضن ثرات طبيعيّة ، فشهدت مسيرةَ تنميةٍ
شاملةٍ لم تشهدها من قبل . وقد أدرك أن التقدم الشامل لهذا المجتمع السعودي الواسع
لن يحصل إلاّ إذا تحقّق تفعيلُ ثورة تعليمية بمعناها الواقعي . وكان من حكمة الله
أن أوّلَ مسؤولية تقلّدها – رحمه الله – كانت مسؤولية نشر التعليم بمعناه الواسع
في المملكة ، وقد كان حكرًا على القلة القليلة القادرة ، وكان مقصورًا في التعليم
الديني وبعض نواحي الأدب العربي . وكان ذلك في الفترة 1373-1380 (1953-1962م)
عندما تمّ إحداث وزارة المعارف أول مرة في
تاريخ المملكة، وكانت مديرية بسيطة من قبل ، وتولّى حقيبتها ؛ فكان أول وزير
للمعارف ، فأحدث في مجال التعليم انقلابًا شاملاً . أسّس أول الأمر مدارس ابتدائية
، جلب لها مدرسين من داخل البلاد وخارجها ، وأَعْقَبَها بمدارس أرقى ، فأَسَّسَ
مدارس ثانوية ، ونشرها في أرجاء البلاد ، وكان الأطفال في هذه البلاد لايعرفون في
الأغلب قيمةً للتعليم لطبيعة حياتهم ، فأغراهم بالمِنَح الدراسية وتقديم الكتب والقرطاسية
مجّانًا ، وشَجِّعهم بشكل أفعل ؛ فاختار منهم المُتَفَوِّقِين ، ورَتَّبَ لهم
رحلات علميّة وبعثات تعليمية إلى الخارج : إلى مصر، فإلى الشام ، فإلى أمريكا ،
وإنجلترا ، وألمانيا ، وفرنسا ، وبالتالي أَنْشَأَ في أرجاء المملكة معاهدَ راقيةً
وجامعاتٍ ذات دراسات عليا وتخصصات ، حتى يجد العائدون من الابتعاث فرصًا وظائفية
وأشغالاً معيشية ، وحتى تُلَبِّي هذه المعاهدُ والجامعاتُ حاجاتِ دولةٍ عصريّة
حديثة راقية كان يحلم بتحقيقها. وجَلَبَ لهذه المعاهد والجامعات أساتذةً أكفاءً من
داخل المملكة وخارجها. وفي مرحلة لاحقة تَحَمَّلَ الأساتذةُ السعوديون في الأغلب
رايةَ التعليم في المعاهد والجامعات إلى جانب تحمّلهم مسؤوليات المدارس والروضات .
ولم يقصر الملك فهد همَّه على تعليم الذكور وإنما صبّ اهتمامَه الكبير على تعليم
البنات ، وإشراك المرأة السعودية في جميع المجالات الحياتية حسبما تسمح به الشريعة
، ويدعو إليه الدين ، ويُشَجِّع عليه الإسلامُ بشتى الأشكال . وقد تكاثرت اليوم في
المملكة المعاهدُ والجامعاتُ فضلاً عن المدارس بشتى مراحلها ، وبجميع فروعها .
وتكاد المملكة تحقق اليوم اكتفاءً داتيًّا في هذا المجال الأكثر حيويّة : مجال التعليم
والتثقيف . والجدير بالذكر أنّه وُضِعَتِ النّواةُ الأولى مستقلةً لتعليم البنات
عام 1380هـ/1962م؛ حيث أُسِّسَت الرئاسة العلمّة لتعليم النبات ، مما ساعد على
تحقّق نهضة شاملة في مجال تعليم المرأة، ولم تتحقق بيسر وبشكل عفويّ، وإنما حالت
دون ذلك عقباتٌ ظلَّ – رحمه الله – يُذَلِّلُها . وكان على رأسها التركيبةُ
الأيديولوجيةُ للمجتمع السعودي الذي كان يرى مجرد تعليم الفتاة مفسدة لها أيّ
مفسدة. كما أنشأ – رحمه الله – عام 1395هـ / 1975م وزارة التعليم العالي التي
ساعدت على تحقيق نهضة تعليمية مُنَظَّمَة لَبَّتْ حاجةَ المجتمع السعوديّ
وأَمَدَّت العالمَ الإسلاميَّ بما يحتاج إليه من الأمداد الثقافية والتربوية ذات
الصلة المباشرة بالتعليم الإسلامي . وانخفضت الأميةُ في المملكة – كما تفيد آخر
الإحصائيات – إلى 13٪
بالنسبة إلى الرجال و 34٪
بالنسبة إلى النساء . وذلك نجاح باهر حَقَّقته المملكة بعناية الملك فهد في مجال
التعليم . وقد بلغ عدد الطلبة المرتبطين بوزارة التربية والتعليم حسب إحصائية عام
1424هـ / 2003م أكثر من 2,539,188 طالبًا ، يشرف على تعليمهم 196,019 مُعَلِّمًا ،
تضمّهم 14,612 مدرسة . فيما بلغ عدد الطالبات الدارسات في مختلف مراحل التعليم
2,311,467 طالبة ، تقوم على تعليمهن نحو 220 ألف معلِّمة ، وَيَتلَقَّيْنَ
تعليمَهنّ في 150800 مؤسسة تعليمية . وتضمّ جامعاتُ المملكة الإحدى عشرة ، إضافة
إلى كليّات إعداد المعلمين والمعلمات والكليات التقنية والصحية .. تضمّ 317 كلية ،
يَدْرُسُ بها 455 ألفَ طالب وطالبة ، ويشرف على تدريسهم نحو 23 ألف عضو هيئة تدريس
. وتقول المصادر العليمة : إن قطاع التعليم يكتسح وحده 20٪
من ميزانيّة الدولة . وهذه نسبة كبيرة قد لا تداني المملكةَ فيها إلاّ القليلُ من
دول العالم .
فالملك
فهد – رحمه الله – لم يعمل على النهوض بالبلاد السعودية فقط بعد أن وُلِّي الملك
1402هـ / 1982م ، وإنما ساهم فيه بفعّالية منذ أن وُلِّي وزارة المعارف 1373هـ /
1953م ، مرورًا بوزارة الداخلية التي وُلِّيَها عام 1382هـ /1962م وبكونه نائبًا
ثانيًا لرئيس مجلس الوزراء ، وقد وُلِّيَ هذا المنصب عام 1387هـ / 1967م بالإضافة
إلى قيامه بمسؤوليات وزارة الداخلية ، وبولاية العهد التي اختير لها 1395هـ /
1975م ؛ بل ساهم في تنمية البلاد في جميع مراحل عمره الواعية ، التي ظل يكتسب
خلالها – قبل أن يتولّى المسؤوليات – خبرات ومُؤَهِّلاَت صقلت مواهبَه الطبيعيَّةَ
في ظل والده العظيم مُوَحِّدِ الجزيرة العربية ومُؤَسِّس المملكة الملك عبد العزيز
بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – عام 1351هـ 1932م.
ويرجع
المحللون والدارسون لتاريخ المملكة وحياة الملك فهد – رحمه الله – اهتمامَ الملك
فهد الكبير المستقل بإحداث التحوّل الجذري في المملكة إلى عهد ولايته ؛ حيث
يعدّونه مُهَنْدِسًا عبقريًّا وَضَعَ أُسسًا وخُطَطاً ذكيّةً شُجَاعةً لنقلها من
صحراويّة بدائية بسيطة إلى دولة راقية متطورة قائمة على أسس صلبة من النهضة
الشاملة في المجالات كلّها : التعليمية والعمرانية ، والصناعية والزراعية ،
والغذائية والبتروكيميائية . فقبل توليه الملكَ كَرَّسَ جهودَه للنهوض ببلاده
يُمِدُّه توفيقُ الله بالإخلاص والانقطاع للعمل. أمّا بعد وصوله الملكَ فكانت
عنايتهُ متوجهةً إلى جميع المناحي التي كان يرى أن تطوُّرَها سيؤدّي إلى تحقيق
نهضة خارقة ظّلَّ يَحْلُمُ بها ويُخَطِّط لها ويعمل على بَلْوَرَتها . فأمر بتطوير
وإقامة البنى التحتية الهائلة في الاقتصاد والتجارة ، والخدمات العامة ، وبإنشاء
مدن صناعيّة كبرى ، وشبكات طرق سريعة وجسور وكباري بأحدث المواصفات ، وتحديث جميع
المدن والقرى الجامعة ، وتطوير المطارات والموانئ والحدائق ، وإنشاء كل ما من شأنه
النهوضُ بالبلاد عمرانيًّا وصناعيًّا واقتصاديًّا، والوصولُ به إلى مستوى الاكتفاء
الذاتي في كل مجال حيويّ ، حتى يعود الإنسان السعودي عصريًّا بمعنى الكلمة لايبهره
الغرب أو الشرق ، ولايشغله التفكير في لقمه العيش، والاهتمامُ برحلات إلى الخارج
للسياحة أو التعليم أو ما إلى ذلك مما يشغل في الأغلب بالَ أبناء دول العالم
الثالث أو معظم دول العالم النّامي .
استخدم
الملك فهد – رحمه الله – سِلاحَ النفط من وجهين : اعتبره موردًا لازمًا للبدء في
خطط التنمية الهائلة التي كان يحلُم بها ويتطلّع إليها ، فَوَظَّفَ عوائده في هذه
الجهة خيرَ توظيف ، وأنشأ مصانعَ كبيرةً وكثيرةً، ونَفَّذَ مشاريعَ حضاريَّةً
متنوعةً ، لأنّه أدرك بحسّه القيادي ، وحبّه للوطن ، وحرصه على مصالح الشعب
والبلاد ، وبالتالي على مصالح الأمة الإسلامية ، أن الاعتمادَ الكليَّ على موارد
النفط وحدها لايجوز؛ لأنه مهما كان لدى المملكة من احتياطات النفط المخزونُ
الكيثرُ في أراضيها ، فإنّه إلى نفادٍ ، والصناعاتُ وحدها إلى بقاء وتزايد ،
فصَنَّعَ المملكة مستفيدًا من عوائد النفط الكبيرة بشكل دقيق ، وجَذَبَ الاستثماراتِ الأجنبيّةَ،
حتى تكون لدى المملكة مواردُ ثابتةٌ للدخل لاتنقطع ، مهما نَفِد النفط أو قلّ .
هذا من ناحيةٍ ، ومن ناحية أخرى أدرك – رحمه الله – أنّ النفط سلعةٌ اِستراتيجيةٌ
تُشَكِّل مخاطرَ للمملكة وللدول المجاورة المالكة لموارد النفط من قبل القوى
العالمية الدولية التي يسيل لها – لهذه السلعة الاستراتيجية – لعابُها ، فتتربص
للانقضاض عليها ، والتحكّم فيها وفي أسعارها بل السيطرة عليها .
عَمِلَ
على اتّخاذ سياسة معتدلة للتعامل مع سلعة النفط ، حتى يُجَنِّبَ بلادَه شرَّ القوى
الدولية ، فلا تتعرض مباشرة لحقدها واعتدائها ، فتَحَاشَىٰ عن إثارة حفيظتها
. وبهذا التعقّل العملي تَمَكَّنَ من الاحتفاظ بثقل المملكة في سوق الطاقة
العالمية ، وتَمَثَّلَ ذلك في وضع استراتيجية النفط طويلة المدى، وفي الحفاظ على
سعر منافس للنفط ، مقابلَ مصادر الطاقة البديلة الأخرى ، مع ضمان إمداده بكميّات
تحمي سعره المنافس ، إلى مناطق استهلاكه في العالم .
لم
يخدم بلادَه وشعبَه تعليميًّا واقتصاديًّا فحسب ، بل طَوَّر مؤسسات الحكم في
المملكة بحيث وُجِدَت فرصٌ أكثر للمشاركة الشعبية في قضايا الشأن العامّ ، مما
جَعَلَ مؤسساتِ الحكم أكثر كفاءة ومرونة ، حتى أصبحت الدولةُ في عهده دولةَ
مؤسساتٍ . وقد أصدر – رحمه الله – في يوم واحد : يوم 27/ شعبان 1412هـ الأنظمةَ
الثلاثةَ التي تُعْتَبَرُ بحق نقلةً مؤسساتيةً كبيرةً في المملكة وهي:
1-
النظام الأساسي للحكم ، بالأمر الملكي ذي الرقم : أ/90 المؤرخ 27/8/1412هـ .
2-
نظام مجلس الشورى ، بالأمر الملكي ذي الرقم : أ/91 المؤرخ 27/8/1412هـ.
3-
نظام المناطق والمحافظات ، بالأمر الملكي ذي الرقم : أ/92 المؤرخ 27/8/1412هـ .
وذلك
كلّه إنما كان قد جاء نابعًا من الحسّ القيادي البعيد المدى الذي كان يتمتّع به
الملك فهد – رحمه الله – وقد أصدر عددًا من الأوامر التي جعلت العملَ الحكوميَّ
والممارسةَ الحكميةَ تتم بأسلوب مُؤَسَّسَاتِيّ يتّسم بالشعور بالمسؤولية
وبالشفّافية ؛ فأصدر يوم 3/3/1414هـ الأمرَ الملكيَّ مُنْشِئًا نظامَ مجلس الوزاء
. كما أصدر يوم 22/5/1425هـ الأمرَ الملكيَّ القاضيَ بإنشاء نظام المجالس البلدية
، الذي أَوْجَدَ لأول مرة في تاريخ المملكة آليّةً للانتخاب لاختيار نصف أعضاء
المجالس البلدية . وهذا التطوُّرُ الإيجابي لمؤسسات الحكم الذي تَحَقَّقَ في عهده
، هو الذي ساعد على اختيار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز –
حفظه الله – مَلِكاً للبلاد في زمن قياسي نادرًا ما يحدث بهذه السلاسة والسرعة
والانسيابية ، وبالتالي اختيار الملك عبد الله لأخيه سمو الأمير سلطان بن عبد
العزيز – حفظه الله – وَليَّ عهد له . الأمرُ الذي أَذهَلَ العالمَ كلَّه ؛ لأن
مثلَ ذلك لايحدث حتى في أرقى دول العالم ذات التنمية الساسية المُتَقَدِّمة. وفي
الوقت نفسه أغاظ ذلك الأعداءَ الذين يَتَرَبَّصون بالمملكة وبالتالي بالإسلام
والمسلمين الدوائر . ونقول لهم : فموتوا بغيظكم ؛ لأن الأمر ليس بأيديكم وإنما هو
بيد الله العزيز المقتدر أولاً وبأيدي العقلاء الحازمين من القادة المسلمين ،
أمثال الملك فهد – رحمه الله – وإخوانه ثانيًا ، الذين سيُبْقِيهم الله
مُوَفَّقِين لما يُرْضِي اللهَ ، ويخدم مصالحَ المملكةِ والشعبِ السعوديِ
والمسلمين في كلِّ مكانٍ، إن شاء الله .
وفي
خدمة الشعب والبلاد كان من حَسَنَات الملك فهد – رحمه الله – تنفيدُه المشروعَ
التنمويَّ الكبيرَ الذي شَهِدَه القطاعُ الصحيُّ ؛ حيث كان عددُ المستشفى لدى
تولّيه الحكمَ (102) ما بين مستشفى حكومي وخاصّ ، فَارْتَفَعَ عددُه في عهده إلى
(350) . وكان عددُ مراكز الرعاية الصحية (951) مركزًا صحيًّا ، فَارْتَفَعَ عددُها
ليصل إلى (1800) مركز صحيّ في أرجاء البلاد.
ولستُ
هنا بسبيل تَعْدَادِ إنجازاتِ ومُعْطَيَاتِ خادم الحرمين الشريفين الملك فهد –
رحمه الله – المتصلة بخدمة الشعب والبلاد وتنميتها الشاملة . وإنما أردتُ ذكرَ شيء
قليل منها لمن يجهلها .
أمّا
على صعيد السياسة الخارجيّة ، فقد تَجَلَّتْ قُدُرَاتُه الدبلوماسيّة منذ أن شارك
– ضمن وفد المملكة – في مؤتمر «سان
فرانسيسكو»
عام 1364هـ/ 1945م وقد رأس الوفدَ الملكُ فيصل الشهيد – رحمه الله – (ش 1395هـ /
1975م) وأسفر المؤتمر عن إنشاء الأمم المتحدة . وكانت المملكة عضوًا مُؤَسِّسًا
فيها ، ومن أوائل الدول التي شاركت في صياغة ميثاق الأمم المتحدة والتوقيع عليه .
تلك كانت بداية اهتماماته بالسياسة الخارجية ، ولكن مساهمتَه المباشرةَ فيها كانت
منذ أن تَوَلَّى العهد ، في عهد الملك خالد – رحمه الله – واستمرّ في السياسة
الخارجية طَوَال عهده مَلِكاً أيضًا على النهج الذي استلهمه من خلال مشاركته
المُبَكِّرَة في المؤسسات الصانعة للقرار في بلاده التي ظَلَّت تَصْدُرُ دائمًا عن
وعيها السياسي وحِسِّها الاستراتيجي وإدراكها ما تحتله هي – الملكة –من المكانة
المرموقة والموقع المتميز ؛ فأصبح الملك فهد – رحمه الله – على وعي كامل بأن بلاده
ليست كعامة الدول ، وأنها ليست مثل البلاد الأخرى المجاورة العاديّة ؛ بل إنّها
شامة بينها جميعًا ؛ فاستقرارُها جميعًا يتوقّف على استقرارها ؛ لأنها تمتلك ثروات
نفطية ضخمة ، وقدرات إنتاجية هائلة ؛ فَتَحرَّكَ دائمًا على صعيد السياسة الخارجية
صادرًا عن هذا الوعي بالبعد الاستراتيجي والمكانة المرموقة للمملكة . وكان رصيدُه
في ذلك دائمًا الاعتدالَ والتوازنَ ، والرويّةَ والتفكيرَ، وتجنُّبَ كلِّ نوع من
التَّهَوُّرِ والارتجاليّة والاستعجال ، الذي تكون عاقبته دائمًا وخيمةً.
وقد
اهتمّ – رحمه الله – منذ ولايته للعهد – اهتمامًا بالغًا بالقضايا السياسية التي
كانت موضعَ اهتمام المملكة على المستويين الإقليمي والدولي ؛ فتابع موضوعَ الحرب
الأهلية في لبنان صادرًا عن روح توحيد الصف العربي وترتيب البيت الإسلامي العربي ؛
فكان بين القادة ذوي التحرك الفاعل في قمة الرياض السداسية التي عُقِدت للوصول إلى
حلّ للأزمة عام 1396هـ / 1976م ، ولعب دورًا طليعيًّا في إيجاد حلّ للأزمة
اللبنانية وإنهاء الحرب الأهلية في لبنان من خلال مؤتمر الطائف ، الذي عُقِدَ عام
1409هـ / 1989م . ومثّلت القضيةُ الفلسطينيةُ أكثرَ اهتمامات الملك فهد رحمه الله
السياسية ما بين القضايا العربية ؛ فَوضَعَ خطّةَ سلامٍ من النقاط لحلّ النزاع
العربي الإسرائيلي ، بإقرار مؤتمر القمة العربي الثاني عشر، الذي عُقِدَ في مدينة «فاس»
المغربية في سبتمبر 1982م (محرم 1403هـ) . وقد اشتهرت الخطة باسم «خطة
الملك فهد للسلام» وحظيت بإجماع عربي
عليها . والقضيةُ الفلسطينيةُ كانت دائمًا في قلب اهتمام القيادة السعودية . وكان
الملكُ فهد أَخَذَ على عاتقه الهمَّ الفلسطينيَّ مُتَمَثِّلاً في ثلاثة مظاهر:
(الف)
الدعم السياسي .
(ب)
الدعم المادي .
(ج)
ما يتصل بالقدس وبالذات المسجد الأقصى .
وظلّ
ينصر هذه القضيةَ – التي هي على رأس القضايا الإسلامية من جميع الاعتبارات – من
خلال المحاور الثلاثة عبر حياته حتى تُوُفِّي – رحمه الله – على ذلك . فجزاه الله
خيرًا .
وقد
تعرّض – رحمه الله – لانتقادات من جهات إسلامية وأشخاص معروفين بـ«إسلاميين»
عندما وَقَفَ بجانب العراق مُسَانِدًا له في الحرب العراقية الإيرانية التي
انْدَلَعَت عام 1399هـ / 1979م ووضعت أوزارَها عام 1406هـ / 1986م ؛ لكن الواقعيين
من المسلمين لم ولن يُوَجِّهُوا إليه انتقادًا ؛ لأنهم يعلمون المبررات والدوافعَ التي
أرغمت المملكة على الوقوف بجانب العراق في هذه الحرب ، منها المبررات
الاستراتيجية، فقد كانت إيران تودّ وتصارح بتصدير «الثورة
الإيرانية»
إلى الدول والمناطق المجاورة، وشَكَّلَ ذلك مخاطر أكيدة رأت المملكةُ العربيةُ
السعوديةُ أنها تَدُقُّ أبوابَها إذا لم تَسُدَّ طريقَها . ولكنه – رحمه الله –
وَقَفَ بكل إمكانياته ووسائله وثقله السياسيّ ضد النظام العراقيّ عندما غَزَتْ في
الثاني من أغسطس 1990م (8/صفر 1411هـ) قواتُه الكويتَ في عدوان سافر، خارقًا
للأعراف الدولية ، والقوانين العالمية ، والأخلاق الإنسانية ، فضلاً عن الإسلامية
، وأَعْلَنَ ضمَّها إلى العراق، وأنّها جزء منه ومحافظةٌ من محافظاته. ساهمت
المملكةُ العربية السعودية مساهمةً أكبرَ وأفعلَ في طرد قوات النظام العراقي من
الكويت في إطار تحالفٍ دوليّ ، في حرب الخليج الثانية عام 1991م (1411هـ) بعد ما
بذلت محاولاتٍ متصلةً مكثفةً واستنفدت ما في وسعها لإرضاء النظام العراقي الصدامي
بالانسحاب من الكويت بشكل سلمي سالماً غير مخدوش ؛ ولكنه لم يَرْضَ بذلك بحيلة أو
بأخرى رغم مساعي المجتمعات الدولية الحثيثة لذلك في قيادة المملكة التى عقدت هي
قمة عربية سبقت الحرب على العراق لتحرير الكويت منه ، عرفت بمحاولة ومصالحة سعودية
عراقية . وقد تجرعت المملكة على غصص مرارةَ حلول القوات الأمريكية بساحتها
واستخدامها لبعض مطاراتها ، وبقائها في أراضيها حتى بعد تحرير الكويت، الأمرُ الذي
لم تكن لترضى به لولا حماقةُ صدام ، مُتَمَثِّلَةً في احتلال الكويت ، وإصراره على
البقاء فيها ، وتهديده السعوديةَ يغزوه إيّاها بعد السيطرة على الوضع في الكويت .
لكن
المملكةَ بقيادة الملك فهد – رحمه الله – وَقَفَتْ بجانب الشعب العراقي دائمًا ،
ولاسيّما لدى مواجهته للمشاكل الناتجة عن الحصار المجحف الظالم الطويل الذي فَرَضَتْه
على بلاده : العراق ، أمريكا مُحْتَمِيَةً بالأمم المتحدة التي اتخذتها – حقًّا –
ألعوبةً تعبث بها كيفما تشاء . إنّ الملك فهد سَارَ في ذلك كله نهجَ الإنسانية ،
والمروءة العربية ، والأخوة الإسلامية ، والمسامحة الدينية ، في محاولة جادّة
لتناسي الخلافات التي تحصل دائمًا في المجتمعات البشريّة .
وظلّت
عناياتُ الملك فهد مُنْصَبَّةً على العراق وشعبه بالمساعدات الماديّة والمعنوية
اللامحدودة بعدما غزته أمريكا بمساعدة بريطانيا غزوًا غَشُومًا ، واحتلّته بعدما
دَمَّرَتْه عن آخره ، ولا تزال قابعة فيه تفعل به الأفاعيلَ الوحشيةَ ، وتُصِرُّ
على البقاء فيه لأمد غير محدّد . وكانت هذه العناياتُ نابعةً من الشعور القويّ
بالأخوة الإسلامية العربية، وأواصر العقيدة والدين ، والاتحاد والاشتراك في الإرث
الحضاري التاريخي .
وكان
للملك فهد مواقفُ محمودةٌ في دحر الاتّحاد السوفياتي عن أفغانستان المسلمة، حينما
غزاها واحتلّها عام 1979م فسَارَعَ إلى نجدة الشعب الأفغاني بكل نوع من الدعم
المالي والسلاحي والسياسي والمعنوي ، ولم يقعد حتى تَمَّ تحريرُها وطردُ آخر جندي
سوفياتي من أرضها . وعندما تنَاحَرَ القادةُ الأفغان طويلاً بعدما أَمِنُوا مخافةَ
السوفيات ، كان له – رحمه الله – مواقفُ متّصلةٌ مُشَرِّفَةٌ في إنهاء الخلاف فيما
بينهم وإيجاد قاسم مشترك يَرْضَوْنَه ، فأرضاهم أن يوقّعوا في مكة المكرمة ميثاقَ
بلاغ مكة تحت رعايته – رحمه الله رحمة راسعة . وقد كان لهذه المساعي الجميلة دورٌ
كبير في التقليل من التناحر الأفغاني .
والخدمات
الإسلامية بشتى صورها كانت على رأس اهتمامات المملكة دائمًا ، وقد تزايدت في عهد
الملك فهد – رحمه الله – بشكل غير مسبوق على الصعيد الداخلي والخارجي ، بما فيها
الدعوةُ الإسلاميّةُ التي هي القطاع الرئيس ضمن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف
والدعوة والإرشاد ، وقد كانت قبل إحداث هذه الوزارة ضمن إدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد ، التي كان رئيسها العامّ سماحة الشيخ عبد العزيز بن
عبد الله بن باز – رحمه الله – (المتوفى 1420هـ / 1999م) وقد خصصت المملكةُ للقطاع
الدعوي جُزءًا وجيهًا من ميزانيتها ، بالإضافة إلى مساعدات سخية ظَلَّتْ
تُقَدِّمُها إلى العلماء والمفكرين والدعاة الذين قاموا بالأعمال الدعوية والفكرية
بشكل غير رسمي أي بشكل شخصي ، أمّا تقديمُها مساعداتٍ كبيرةً ضمن الخدمات
الإنسانية فحَدِّثْ عن البحر ولا حرج ؛ فقد قدّمت من خلال القنوات الثنائية
والإقليمية والدولية مساعدات هائلة وضعتها في طليعة الدول التي تُقَدِّم المساعدات
الإنسانية في العالم كله . حتى أنشأت رابطةُ العالم الإسلامي – التي هي إحدى حسنات
المملكة الكبيرة – هيئة مستقلة باسم «هيئة
الإغاثة الإسلامية العالمية»
التي تُشَكِّلُ قطاعًا هامًّا ضمن القطاعات النشيطة تابعةً لرابطة العالم الإسلامي
.
أمّا
المساعداتُ الكبيرة التي قَدَّمَتْها المملكةُ بقيادة الملك فهد – رحمه الله –
لصالح إنشاء المراكز الإسلامية والثقافية والمساجد والمدارس في قارات العالم الخمس
، فهي تبلغ بلايينَ الريالات ، مما جَعَلَ قلوبَ المسلمين رطبةً بالدعاء له – رحمه
الله – ولجميع إخوانه القادة والأسرة المالكة وجميع أعضاء الحكم في المملكة . وبلغ
عددُ المراكز الإسلامية التي أَنْشَأَتْها المملكةُ مباشرةً أو ساهمت في بنائها،
حوالي 210 مراكز ، وبلغت المساجدُ 1500 مسجد ، و بلغ عددُ المدارس 1000 مدرسة .
ولكن
ذلك كله يتضاءل – رغم قيمته الكبيرة وأهميته البالغة – أمام ما صنعه خادم الحرمين
الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – والذي تَوَّجَ به حقًّا تاريخَه
المُشرِّف المعطاء ، من توسعة الحرمين الشريفين ، بشكل لم يشهده التاريخ منذ عهد
النبي ﷺ
إلى يومنا هذا ، لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف . لم ير المسلمون قط الحرمين
الشريفين على الجمال والأناقة اللذين يرونهما عليهما اليوم ، واللذين أضفتهما
عليهما توسعةُ الملك فهد ، فينبهر بهما كل زائر وحاجّ ومعتمر ومصل ، ويؤمن بأنهما
آيتان في الهندسة والبناء والإنشاء والجمال والفن المعماريّ لايوجد نظيرُهما في
ذلك في العالم كله . ولم تَتَأَتَّ هذه التوسعةُ إلاّ نابعةً من إخلاص المليك –
رحمه الله – وحبّه لله ولرسوله وللمسلمين أجمعين الذين وَفَّرَ لكل حاج ومعتمر
منهم من خلال التوسعة وعلى هامشها تسهيلاتٍ وراحاتٍ لم يكن ليحلم بها أيّ منهم
مهما كان ذكيًّا . وقد زَرَعَ بهذا الملك خادم الحرمين الشريفين رحمه الله تعالى
حقًّا كل شبر من أشبار مدينتي الحرمين والمشاعر المقدسة بما يُسَهِّلُ عليهم أداءَ
المناسك والعمرة والصلاة بشكل يستخرج من ألسنتهم الأدعية له رحمه الله تعالى . ولم
تتحقق هذه التوسعةُ إلاّ بتكاليف مادّية باهظة وبجهود غير مسبوقة حثيثة متتابعة
سنوات عديدة ، وكَلَّفت التوسعةُ أكثر من 70 مليار من الريالات ، وجمعت من
جماليّات العمارة وتقنيات التحديث ، ما لم يخطر بقلب أيّ إنسان مهما كان عبقريًّا
، وقد تيسّرت مثلُ هذه التوسعة لخادم الحرمين الشريفين – رحمه الله – بفضل من الله
وحده .
ويلي
خدمةَ الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة إنشاؤه – رحمه الله – مُجَمَّعًا خاصًّا
لطباعة القرآن الكريم ، باسم«مُجمَّع
الملك فهد لطباعة المصحف الشريف»
بالمدينة المنورة . وضع حجر أساسه يوم 16/ محرم 1403هـ (5/أكتوبر 1982م) وافتتحه
في 6/صفر 1405هـ (4/أكتوبر 1984م) والمجمعُ يصدر القرآن الكريم بشتى الأحجام
وتراجمه بشتى اللغات بطباعة أنيقة جدًّا تسرّ الناظرين ، وتُقِرّ أعين المسلمين ،
وتدعو التالين للدعاء للمليك الصالح . ويُنْتِج سنويًّا ما متوسطه 10 ملايين نسخة
، تُوَزَّعُ على المسلمين في جميع أنحاء العالم ، وقد أنتج أكثر من 160 إصدارًا ،
و 93 مليون نسخة . وهو حقًّا مَعْلَمٌ مشرق وضّاء في جبين المملكة ومنارة حضاريّة
لخدمة القرآن والسنة .
هذا
وغيره من المآثر والإنجازات الكبيرة الكثيرة الطويلة جعلت الملكَ فهد في مقدمة
الملـــوك السعوديين – وإن كانت لكل منهم منّــة كبيـــرة وفضل عظيم – فيما يتعلق
بخدمــة الإسلام والمسلمين وتنمية البلاد وإراحـــة الشعب . وإن رحل عن دنيانا ،
فإنه لن يرحل عن قلوبنا وقلوب الشعب السعودي وقلوب المسلمين في أنحاء الدنيا ،
وستبقى مآثره الطيبة القيمة العظيمة نشيدًا خالدًا على فم الزمان وأبناء كل عصر
ومصر إن شاء الله .
ولم
يكن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد كبيرًا فقط بصنائعه وإنجازاته ، وإنما كان
كبيرًا أيضًا بتواضعه وبساطته ، ومكارم أخلاقه ، وبإنسانيته وعدله واعتداله ،
وسماحة نفسه ، وسعة صدره ، وثقوب نظره، ورأفته بالفقراء والمحتاجين ، ووقوفه بجانب
المظلومين والمسحوقين والمساكين ، وسعيه لتقديم العون لكل ذي حاجة بشكل لاتعلم
شماله ما تنفقه يمينه . وقد سَجَّلَ الكاتبون والمتحدثون عنه والمترجمون له مواقفَ
كثيرة لو سُرِد ههنا بعضُها لأطال المقال وأضاق المقام وأسأم القراء . ويكفى
قراءَنا أن يعلموا أن الملك فهد لم يمتلك القلوبَ ، ولم يسكن العيونَ ، ولم يفز
بهذه العلاقة التلقائية العاطفية التي أبداها تجاهه شعبه بكل فئاته وقطاته ،
وأسرتُه المالكة وجميعُ إخوانه ، والتي تبلورت لدى موته بشكل أوضح وأسلوب أروع ،
إلاّ بأخلاقه العظيمة ، وتواضعه الجم ، وإنسانيّته الرفيعة . وحسبك أنه أول ملك سعودي تخلّى عن لقب «جلالة الملك» وتسمّى يوم 24/2/1407هـ بلقب خادم الحرمين الشريفين .
وقد
ترك هذا الملكُ الإنسانُ خادمُ الحرمين الشريفين مبنى ومعنى الذي دُفِنَ بقبر لا
علامة عليه ، وشُيِّع جثمانه تشييع جثمان أيّ إنسان عاديّ ، من خلفائه من يُعَلِّق
المسلمون عليهم الآمالَ الكبيرةَ والتطلعاتِ العريضةَ ، الذين حملوا الراية بعده
عن جدارة واستحقاق ؛ لأنهم كلهم خريجو تلك المدرسة العربية الإسلامية والمهد
الإيماني القرآني ، والأرض التي هي إرث النبي الأعظم سيدنا محمد ﷺ
، وهم أحرص منا جميعًا على الحفاظ عليها ، ودرء جميع الكلاب والذئاب منها ، وإقامة
سياج إيماني ماديّ ومعنوي حولها ، و اتخاذ كل ما من شأنه أن يحقق لأبنائها كل تقدم
ورخاء ، وكل خير ينفعهم في الدنيا والآخرة ، وأن يحقق للأمتين العربية والإسلامية
ما تتطلعان إليه من حلول مرضيّة لكل القضايا العالقة اللصيقة بهم الإقليمية
والدولية والإسلامية ، ومن تحصين من جميع الأخطار والأضرار التي يسهر الأعداء
باستمرار على إلحاقها بالعرب والمسلمين .
رحمه
الله رحمة واسعة ، وأدخله فسيح جنّاته ، وأسكنه بجوار نبينا محمد ﷺ
، وإخوانه الأنبياء والمرسلين ، والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا
. وألهم أهلَه وذويه ومحبيه ومعارفَه وجميعَ أعضاء الأسرة المالكة والشعبَ
السعوديَّ والأمتين العربية والإسلامية الصبرَ والسلوانَ . ولا حرمنا أجره ولا
فتننا بعده ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،
والحمد لله رب العالمين.
(تحريرًا
في الساعة :308
من يوم الأربعاء : 2/شعبان 1426هـ = 7 /سبتمبر 2005م)
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ =
سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.